خرافة الأرض المسطحة

لطالما كان شكل الأرض محورًا أساسيًا في فهم الإنسان للكون، وهو ما تطور على مدى آلاف السنين من التأملات البدائية إلى النماذج العلمية الدقيقة. ومع ذلك، وبالرغم من التقدم الهائل في العلوم وتقنيات الرصد الفضائي، لا تزال بعض الجماعات والأفراد يروجون لفكرة أن الأرض مسطحة، متحدّين بذلك الإجماع العلمي الذي يؤكد كروية الأرض. ما يدفع للتأمل في الجذور النفسية، الاجتماعية، التاريخية، والثقافية التي تجعل من هذا الاعتقاد قائمًا في بعض الأوساط حتى يومنا هذا، ويستوجب تحليلاً عميقًا لأسبابه وتداعياته.

النشأة التاريخية للاعتقاد

رغم شيوع الفكرة القائلة إن البشر في العصور الوسطى اعتقدوا أن الأرض مسطحة، فإن الأدلة التاريخية تشير إلى أن الفلاسفة والعلماء اليونانيين، منذ القرن السادس قبل الميلاد، كانوا على دراية بكروية الأرض. الفيلسوف فيثاغورس يُعد من أوائل من تبنوا هذه الفكرة، وتبعه أفلاطون وأرسطو الذين قدموا أدلة فيزيائية وبصرية تؤكد ذلك. لاحقًا، في القرن الثالث قبل الميلاد، قام إراتوستينس بقياس محيط الأرض بدقة مذهلة مقارنة بإمكانات عصره.

بالتالي، فإن فكرة “الأرض المسطحة” لم تكن يومًا حجر الزاوية في الفكر العلمي القديم، بل إنها ظهرت على الهامش، وغالبًا ما كانت ترتبط بتيارات فكرية أو دينية مغلقة على ذاتها. ومع أن هذه الفكرة خفت بريقها مع بزوغ عصر النهضة والعلوم الحديثة، فإنها عادت إلى الواجهة بشكل غير متوقع في العصر الرقمي، ما يطرح تساؤلات حول آليات انتشار المعلومات الزائفة ومدى تأثيرها على الإدراك الجماهيري.

الإنترنت كحاضنة للخرافة

أدى ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي إلى تسهيل انتشار المعلومات، سواء أكانت صحيحة أم خاطئة. وفرت هذه المنصات بيئة خصبة للمنصّرين لفكرة الأرض المسطحة، الذين قاموا بإنشاء منتديات ومجموعات على الإنترنت لنشر أفكارهم وتجنيد المؤيدين لها. يستخدم هؤلاء خطابًا مفعمًا بالشك في المؤسسات العلمية، ويتبنون سرديات المؤامرة، حيث يُتهم العلماء ووكالات الفضاء العالمية مثل “ناسا” بتضليل البشرية منذ عقود.

يرتكز هذا الطرح على مزيج من انعدام الثقة في السلطات العلمية، واعتقاد بوجود “حقيقة مخفية” لا يريدها المتنفذون أن تُعرف. وتُعتبر هذه البيئة النفسية والاجتماعية مثالية لتفشي الخرافة، خصوصًا في ظل تراجع الثقافة العلمية لدى الكثير من المستخدمين وعدم امتلاكهم للأدوات النقدية اللازمة لتقييم المعلومات المتداولة.

الدوافع النفسية والاجتماعية للاعتقاد

التمسك بفكرة أن الأرض مسطحة لا ينبع دائمًا من جهل أو غباء، بل يرتبط أحيانًا بحاجات نفسية واجتماعية معقدة. فبعض الأفراد يشعرون بنوع من السيطرة أو التميز عند تبنيهم لموقف يخالف التيار العام. يشعرون بأنهم “يعرفون الحقيقة” بينما الآخرون مخدوعون، ما يمنحهم شعورًا زائفًا بالتفوق المعرفي.

في حالات أخرى، يلعب الانتماء إلى جماعة تؤمن بنفس المعتقد دورًا في تعزيز هذا الاعتقاد، حيث تتحول الفكرة إلى هوية جماعية يُدافع عنها بشراسة. يمكن تشبيه هذه الظاهرة بنوع من الإيمان الديني، حيث يصبح النقاش المنطقي مع أصحاب هذه المعتقدات عديم الجدوى، لأن الفكرة نفسها أصبحت جزءًا من الذات وليس مجرد رأي قابل للتغيير.

كيف يتم تبرير الاعتقاد؟

يستخدم مؤيدو الأرض المسطحة مجموعة من “الأدلة” التي تبدو لأول وهلة منطقية، لكنها تنهار عند إخضاعها للفحص العلمي. من بين هذه الادعاءات:

• الأفق المستوي: يزعمون أن الأفق يبدو مسطحًا للعين المجردة، وبالتالي لا توجد انحناءات تؤكد كروية الأرض.

• عدم الشعور بالحركة: يرفضون فكرة دوران الأرض لأنها “غير محسوسة”، متجاهلين قوانين الفيزياء التي تشرح عدم شعور الإنسان بالحركة المنتظمة.

• الصور الفضائية ملفقة: يشككون في كل الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية، ويعتبرونها مزيفة أو مصممة باستخدام برامج الحاسوب.

اللافت في هذه المزاعم أنها تتجاهل كليًا الأدلة التجريبية الراسخة، مثل الظلال المختلفة في نفس الوقت في مدن متباعدة، أو صور الأرض من الفضاء، أو ظاهرة انحناء الأفق عند ارتفاع الطائرات.

الدور المحوري للعلم الحديث

منذ القرن السابع عشر، ومع تقدم الفلك والفيزياء، أصبح تصور الأرض كروية ومتحركة حول الشمس أمرًا لا يمكن دحضه. الصور الفضائية الملتقطة من بعثات أبولو، والتقنيات الحديثة في نظم التموضع الجغرافي (GPS)، والرصد الفلكي، كلها تثبت بشكل قطعي أن الأرض ليست مسطحة.

علاوة على ذلك، فإن كثيرًا من التطبيقات الحياتية اليومية تعتمد ضمنيًا على كروية الأرض. على سبيل المثال، الملاحة الجوية لا يمكن أن تتم بدقة إلا باستخدام النماذج الكروية للأرض، حيث تختلف المسافات والانحناءات بحسب الموقع الجغرافي. كذلك، فإن اختلاف الزمن بين البلدان ما هو إلا نتيجة لدوران الأرض حول محورها.

تفسيرات علم النفس المعرفي

يشير علم النفس المعرفي إلى أن الأفراد ميالون لتبني نظريات المؤامرة والخرافات عندما يشعرون بالعجز أو الاغتراب عن النظام العام. كما أن “التحيز التأكيدي” يلعب دورًا كبيرًا، حيث يبحث الشخص فقط عن المعلومات التي تؤكد وجهة نظره، ويتجاهل أو يرفض المعلومات المعارضة.

هذه الظواهر تتفاقم عندما تكون المعرفة العلمية ضعيفة، ويُستعاض عنها بمحتوى بصري سريع على منصات مثل “يوتيوب” و”تيك توك”، حيث تنتشر الفيديوهات التي تروج لفكرة الأرض المسطحة بشكل مثير ومدعوم بالمؤثرات البصرية، ما يجعلها تبدو أكثر إقناعًا للعقل غير المدرب.

مقارنة بين النماذج الكونية

دور التعليم في مكافحة الخرافة

الخط الأمامي لمحاربة هذه الأفكار هو التعليم الجيد والفاعل. من الضروري أن يتضمن المنهج الدراسي تعليمًا علميًا صارمًا يعزز التفكير النقدي ويشرح كيفية التحقق من المعلومات. تعليم مبادئ الفيزياء والفلك والتفكير العلمي منذ المراحل المبكرة يساعد في بناء حصانة فكرية ضد الخرافات.

كذلك، من المهم أن تعمل وسائل الإعلام على نشر الثقافة العلمية، لا من خلال التبسيط الزائد، بل عبر التوضيح المنهجي للأدلة العلمية واستخدام الوسائل السمعية والبصرية بشكل مدروس، بعيدًا عن الإثارة المجردة.

الأسباب الاقتصادية خلف الظاهرة

في بعض الحالات، تتحول الخرافات إلى مصدر للربح، حيث تنشأ قنوات يوتيوب ومواقع إلكترونية ومؤتمرات تروج للأرض المسطحة وتبيع منتجات مثل الكتب أو الوثائقيات أو حتى رحلات “استكشافية”. يجذب هذا السوق قطاعًا لا يُستهان به من الجمهور الباحث عن محتوى بديل، ما يحوّل الخرافة إلى مشروع تجاري بحت، يُغذى بالإثارة والتشكيك في المؤسسات.

علم الفلك والتجريب كأدوات داحضة

كلما ارتفع الإنسان في الغلاف الجوي، ظهر انحناء الأرض بشكل أوضح. وقد تمكن العلماء والهواة من استخدام بالونات الطقس والكاميرات لرصد هذا الانحناء. كذلك، يمكن باستخدام التلسكوبات البسيطة رصد انحناء ظل الأرض على القمر أثناء الخسوف، وهو دليل قدّمه أرسطو منذ آلاف السنين.

وتُعد تجربة “سفن البحار” التي تختفي تدريجيًا عن الأفق مثالًا عمليًا على كروية الأرض، حيث تختفي مؤخرة السفينة قبل مقدمتها عند ابتعادها، وهو أمر لا يحدث على سطح مسطح.

خاتمة

إن الاعتقاد بأن الأرض مسطحة لا يعدو كونه خرافةً تتغذى على الجهل، وانعدام الثقة، وانتشار المعلومات المضللة. وبينما يجب احترام حرية الرأي، فإن مسؤولية المجتمع العلمي والثقافي تفرض مواجهة هذا النوع من الادعاءات، ليس فقط من باب الدفاع عن الحقيقة، بل لحماية العقول من الانزلاق نحو تفسيرات زائفة للعالم، قد تبدو بسيطة لكنها تخفي وراءها أنظمة فكرية مغلقة ومعادية للعلم. نشر المعرفة، وتعزيز التفكير النقدي، وتحديث التعليم، كلها أدوات كفيلة بكسر الدائرة التي تغذي هذه الخرافات.

المصادر والمراجع:

• Carl Sagan, The Demon-Haunted World: Science as a Candle in the Dark, 1995.

• National Aeronautics and Space Administration (NASA): www.nasa.gov

• Eratosthenes’ measurement of Earth’s circumference, Encyclopedia Britannica.

• Flat Earth Society (لتحليل الفكر وليس للدعم): www.tfes.org

• “Flat Earth and the Rise of Science Denial”, Scientific American, 2018.

• Neil deGrasse Tyson lectures and debates on Earth’s shape.

• فيديوهات تلسكوبات الهواة والبالونات الفضائية على YouTube Channels مثل: Smarter Every Day, Vsauce.